فصل (9) فی قول المتقدمین أن النفس إنما تعقل باتحادها بالعقل الفعال «1»
[أدلة المانعین عن ذلک]
إن المشهور فی کتب القوم من حکماء الدورة الإسلامیة أن هذا المذهب أیضا کالمذهب الأول باطل فإنه أیضا قریب المأخذ من الأول فذکروا فی بطلانه أن العقل الفعال إما أن یکون شیئا واحدا بعیدا عن التکثر أو یکون ذا أجزاء و أبعاض- و الأول یوجب أن یکون المتحد به لأجل تعقل واحد عقل جمیع المعقولات لأن المتحد بالعاقل و لجمیع المعقولات لا بد و أن یعقل کل ما یعقله و إن کان یتحد ببعضه لا بکله وجب أن یکون للعقل الفعال بحسب کل تعقل ممکن الحصول للإنسان جزء لکن التعقلات التی یقوى البشر علیها غیر متناهیة فإذن العقل الفعال مرکب من أجزاء مختلفة الحقائق غیر متناهیة لأن المعقولات المختلفة الحقائق غیر متناهیة- ثم کل من تلک المعقولات یمکن حصولها للأنفس الغیر المتناهیة فیکون تعقل زید مثلا للسواد مثل تعقل عمرو فإذن یکون للعقل الفعال بحسبها أجزاء غیر متناهیة- متحدة بالنوع لا مرة واحدة بل مرارا غیر متناهیة کل منها غیر متناهیة متحدة بالنوع- و هذا مع ما فیه من المحالات یلزمه محال من جهة أخرى و هو أن تلک المتحدات بالنوع لا یتمایز بالماهیة و لوازمها بل بالعوارض الممکنة الافتراق و ذلک لا یجوز إلا بسبب المادة و العقل الفعال مجرد عنها فأجزاؤه أولى بالتجرد فهی غیر متمایزة بالعوارض فهی غیر متکثرة فالعقل الفعال بسیط و قد فرض مرکبا هذا خلف فالقول باتحاد النفس بالعقل الفعال محال هذا ما ذکره المتأخرون فی کتبهم مطبقین على بطلان هذا المذهب و إلیه أشار الشیخ فی الإشارات بعد حکایة هذا المذهب بقوله و هؤلاء بین أن یجعلوا العقل الفعال متجزیا قد یتصل منه شیء دون شیء أو یجعلوا اتصالا واحدا به یجعل النفس کاملة واصلة إلى کل معقول.
[تحقیق الأمر]
أقول هذا المذهب کالذی قبله لما کان منسوبا إلى العلماء الفاضلین المتقدمین فی الحکمة و التعلیم لا بد و أن یکون له وجه صحیح غامض یحتاج تحقیقه إلى بحث شدید و تفحص بالغ مع تصفیة للذهن و تهذیب للخاطر و تضرع إلى الله تعالى و سؤال التوفیق و العون منه و قد کنا ابتهلنا إلیه بعقولنا و رفعنا إلیه أیدینا الباطنة- لا أیدینا الداثرة فقط و بسطنا أنفسنا بین یدیه و تضرعنا إلیه طلبا لکشف هذه المسألة و أمثالها طلب ملتجىء ملجأ غیر متکاسل حتى أنار عقولنا بنوره الساطع و کشف عنا بعض الحجب و الموانع فرأینا العالم العقلی موجودا واحدا یتصل به جمیع الموجودات التی فی هذا العالم و منه بدؤها و إلیه معادها و هو أصل المعقولات و کل الماهیات- من غیر أن یتکثر و یتجزى و لا أن ینقص بفیضان شیء منه و لا أن یزداد باتصال شیء إلیه لکن موضع إثبات هذا الجوهر و أحکامه لیس هاهنا بل سیأتی من ذی قبل أن شاء الله تعالى و الذی یلیق أن یذکر هاهنا ما یسکن به صولة إنکار المنکرین- لاتصال النفس بذلک العالم فی إدراک کل معقول و یضعف به شدة استبعادهم إیاه- عن سنن الصواب أمور ثلاثة.
أحدها أنه قد مر أن النفس إذا عقلت شیئا صارت عین صورته العقلیة و قد فرغنا من إثباته بالبرهان و حللنا الشکوک التی فیه.
و ثانیها أن العقل هو کل الأشیاء المعقولة و البرهان علیه مما أقمناه فی موضع آخر و معنى کونه کل الأشیاء المعقولة لیس أن تلک الأشیاء بحسب أنحاء وجوداتها الخارجیة الخاصة بواحد واحد صارت مجتمعة واحدة «1» فإن ذلک ممتنع فإن الماهیة الفرسیة لها وجود فی الخارج مع مقدار و وضع و لون و مادة و لها أیضا وجود عقلی خاص مع لوازم و صفات عقلیة یتحد معه فی ذلک الوجود الخاص کاتحاد الماهیة و أجزائها بالوجود الخاص بها إما خارجا أو عقلا فکما أن لکل من النوعیات وجودا حسیا یتمایز به أشخاصها و یتزاحم تزاحما مکانیا کذلک لکل منها وجود عقلی مخصوص- یتباین بحسبه أنواعها و یتزاحم فی ذلک الوجود فیکون المعقول من الفرس شیئا و من النبات شیئا آخر جعلا و وجودا بل المراد أنه یمکن أن یکون جمیع الماهیات- الموجودة فی الخارج بوجودات متعددة متکثرة کثرة عددیة و فی العقل بوجودات متکثرة کثرة عقلیة موجودا بوجود واحد عقلی هو بعینه جامع جمیع المعانی مع بساطته و وحدته.
و ثالثها أن وحدة العقول لیست وحدة عددیة هی مبدأ الأعداد کوحدة الجسم مثلا و وحدة السواد و اللون أو الحرکة بل وحدة أخرى و الفرق بین الوحدتین فی المعنى أن هذه الوحدة التی فی الأجسام و الجسمانیات إذا فرض أن یوجد أخرى مثلها صار المجموع أعظم أو أکثر فإن الجسمین أعظم من جسم أحدهما و کذا السوادان لیس حالهما کحال أحدهما بل لا بد و أن یحصل تغیر فی الوجود و هذا بخلاف الوحدة العقلیة فإنا لو فرضنا وجود ألف عقل مثل هذا العقل لکان حال الواحد فی وحدته کحال ذلک الألف فی کثرته مثال ذلک معنى الإنسان بما هو إنسان فإنک إذا أضفت إلى هذا المعنى معنى هو مثله فی الحقیقة مع قطع النظر عن العوارض اللاحقة من الوضع و المقدار و الأین و غیرها فلم تجده فی ثانویته و لا المجموع فی اثنینیته إلا کما تجد الأول فی وحدته و لذلک قال صاحب التلویحات- صرف الوجود الذی لا أتم منه کلما فرضته ثانیا فإذا نظرت إلیه فإذن هو هو إذ لا میز فی صرف شیء «1» فإذا تقررت هذه المسائل فنقول إن النفس الإنسانیة من شأنها أن تدرک جمیع الحقائق و تتحد بها کما علمت و من شأنها أن یصیر عالما عقلیا فیه صورة کل موجود عقلی و معنى کل موجود جسمانی فإذا فرض أن یوجد فیها معنى من المعانی العقلیة کمعنى الفرس العقلی مثلا و قد قررنا أن المعنى العقلی الواحد بالحد و النوع دون التشخص و الوضع لا یمکن تعدده بالوجود إلا بأمر زائد على معناه و حده فالفرس العقلی الموجود فی العقل الفعال و الفرس العقلی الموجود فی النفس عند ما صارت به عقلا بالفعل لا یمکن تعددهما من جهة المعنى و الحقیقة بل من جهة زائدة على الحد و الحقیقة فما فی النفس و ما فی العقل الفعال- من الفرس العقلی أمر واحد و قد مر أیضا أن النفس یتحد بکل صورة عقلیة أدرکتها فیلزم اتحادها بالعقل الفعال الموجود فیه کل شیء من هذه الجهة لا من جهة ما لم یدرکه من العقلیات فکل نفس أدرکت صورة عقلیة اتحدت مع العقل الفعال اتحادا عقلیا من تلک الجهة و لما کانت المعانی کلها موجودة فیه بوجود واحد من غیر لزوم تکثر فیه و هی مما یصح أن یوجد فی أشیاء متفرقة فکما لا یلزم من صیرورة تلک المعانی متکثرة الوجود فی مواطن أخرى غیر موطن العقل کون العقل منقسما متجزیا بسبب وجودها فیه وجودا مقدسا من شوب الکثرة و التجزئة- فکذلک لا یلزم من اتحاد النفوس الکثیرة من جهة کمالاتها المتفننة بالعقل الفعال- تجزیة العقل الفعال و لا یلزم أیضا نیل کل من النفوس کل کمال و کل فضیلة- و من أشکل علیه ذلک فلذهوله عن کیفیة الوحدة العقلیة «1» و قیاسها على الوحدة العددیة أ لا ترى أن الإنسان متحد بالحیوان و کذا الفرس و الثور و الأسد کل منها متحد مع ما یتحد به الآخر ثم لا یلزم من ذلک اتحاد بعضها مع بعض و ذلک لأن وحدة الحیوان وحدة مرسلة و الوحدة المرسلة یمکن فیها اتحاد المختلفات بحسبها و کذلک حال الوحدة العقلیة لا یأبى عن اجتماع المعانی الکثیرة فیها فالحیوان العقلی کالحیوان المرسل قد یتحد فیه الحیوانات العقلیة
[کلام المعلم الأول و الجواب عنه]
قال المعلم الأول فی کتاب أثولوجیا إن العالم الأعلى هو الحی التام- الذی فیه جمیع الأشیاء لأنه أبدع من المبدع الأول التام ففیه کل نفس و کل عقل- و لیس هناک فقر و لا حاجة البتة لأن الأشیاء التی هناک کلها مملؤة غنى و حیاة- کأنها حیاة تغلی و تفور و جرى حیاة تلک الأشیاء إنما ینبع عن عین واحدة لا کأنها حرارة واحدة أو ریح واحدة فقط بل کلها کیفیة واحدة فیها کل کیفیة یوجد فیها کل طعم.
و قال فیه أیضا إن اختلاف الحیاة و العقول هاهنا إنما هو لاختلاف حرکات الحیاة و العقل فلذلک کانت حیوانات مختلفة و عقول مختلفة إلا أن بعضها أنور و أشرف من بعض «1» و ذلک أن من العقول ما هو قریب من العقول الأولى فلذلک صار أشد نورا من بعض و منها ما هو ثان و ثالث فلذلک صار بعض العقول التی هاهنا إلهیة- و بعضها ناطقة و بعضها غیر ناطقة لبعدها عن تلک العقول الشریفة و أما هناک فکلها ذو عقل فلذلک صار الفرس عقلا و عقل الفرس فرس و لا یمکن أن یکون الذی یعقل الفرس إنما هو عاقل الإنسان فإن ذلک محال فی العقول الأولى «2» فالعقل الأول إذا عقل شیئا کان هو و ما عقله شیئا واحدا «1» فالعقل الأول لا یعقل شیئا لا عقل له بل یعقله عقلا نوعیا و حیاة نوعیة و کانت الحیاة الشخصیة لیست بعادمة للحیاة المرسلة فکذا العقل الشخصی لیس بعادم للعقل المرسل فإذا کان هذا هکذا فالعقل الکائن فی بعض الحیوان لیس هو بعادم للعقل الأول و کل جزء من أجزاء العقل- هو کل ما یتجزى به عقل فالعقل للشیء الذی هو عقل له هو الأشیاء کلها بالقوة- فإذا صار بالفعل صار خاصا و أخیرا بالفعل و إذا کان أخیرا بالفعل صار فرسا أو شیئا آخر من الحیوان و کلما سلکت الحیاة إلى أسفل صار حیا دنیا خسیسا و ذلک أن القوى الحیوانیة کلما سلکت إلى أسفل ضعفت و خفیت بعض أفاعیلها فحدث منها حیوان دنی ضعیف فإذا صار ضعیفا احتال له العقل الکائن فیحدث الأعضاء القویة بدلا عن قوته کما لبعض الحیوان أظفار و مخالب و لبعضه قرون و لبعضه أنیاب- على نحو نقصان الحیاة فیه انتهى کلام المعلم الأول.
و لا یخفى ما فیه من التحقیق و التنویر لجمیع ما ادعیناه و قررناه فی هذا الفصل إلا أن فی بعض کلماته ما یحتاج إلى التفسیر حذرا من غفلة الناظرین فیها عنه و عدم تفطنهم به فقوله لاختلاف حرکات الحیاة و العقل أراد به اختلاف الجهات العقلیة التی فی العقول الأولى کالوجوب و الإمکان و الشدة و الضعف و اختلاف الحیثیات الناشئة من جهة قربها و بعدها عن المبدع الأول فالمراد بالحرکة هاهنا هو الصدور لا التغیر بوجه من الوجوه و المراد من اختلاف الحرکة إما بحسب الکیف فکالوجوب و الإمکان و الوجود و الماهیة فإن الصادر من جهة الوجوب و الوجود غیر الصادر من جهة الماهیة و الإمکان و أما بحسب الکم فکدرجات القرب و البعد من الأول فالصادر عن العقل العالی «1» القریب من الأول تعالى أشرف من الصادر عن العقل النازل کما یستفاد من کلامه و قوله إن من العقول ما هو قریب من العقول الأولى أراد بالعقول الأولى العقول المفارقة بالفعل و بالأخرى ماهیات الأنواع و صورتها العقلیة و هی على درجات متفاوتة أوائلها کالعقول الإنسانیة و ثوانیها کالحیوانیة و ثوالثها کالنباتیة و قوله فإن ذلک محال فی العقول الأولى- أراد بها العقول التی فی الطبقة النازلة «2» و قوله و کانت الحیاة الشخصیة لیست بعادمة للحیاة المرسلة أراد بالحیاة المرسلة ماهیة الحیوان و بالعقل المرسل صورتها «3» العقلیة الکلیة و کل منهما بحسب الاعتبار غیر العقل بالفعل الأول مع اتحادهما معه فی الوجود فالماهیة من حیث هی یحتمل الکلیة و الجزئیة و التجرد و التجسم- و غیر ذلک من الأحوال و أما صورتها العقلیة فهی لا محالة أمر مشترک بالفعل بین أفرادها الموجودة أو المفروضة و أما العقل بالفعل الأول فهو نحو وجودها و تعینها العقلی الجامع لکثیر من التعینات و قوله فالعقل الکائن فی بعض الحیوان لیس بعادم للعقل الأول أراد بالعقل الکائن فیه ماهیته العقلیة و هی لیست بعادمة للعقل المفارق لأنها متحدة به «1» و قوله و کل جزء من أجزاء العقل أراد به الأجزاء المعنویة التی هی قد تکون صورا عقلیة للأجزاء الخارجیة کالأعضاء المعقولة للحیوان- المعقول من رأس معقول و ید معقولة و رجل معقولة فإن حکم کل منها کحکم المجموع فی أنحاء الوجود کالمعقولیة و المحسوسیة «2» و قوله فالعقل للشیء الذی هو عقل له هو الأشیاء کلها بالقوة فإذا صار بالفعل صار خاصا و أخیرا بالفعل اعلم أن المراد بالقوة و الفعل هاهنا غیر المعنى المشهور فإن المراد هاهنا بالقوة کون الوجود الواحد مشتملا بوحدته على ماهیات و معان کثیرة قد یوجد فی موطن آخر بوجودات متعددة کثیرة کالسواد الشدید إذا قیل أنه هو السوادات الضعیفة بالقوة لیس المراد أنه یمکن أن ینقسم إلیها أو یستعد لأن یقبل تلک الأمور و ینفعل عنها بل هناک وجود صرف بلا عدم و فعلیة محضة بلا قوة کما قررناه و کذا المراد بالفعل هاهنا- لیس ما یقابل القوة بالمعنى المصحوب للعدم بل المراد الإیجاد للشیء الجسمانی المتخصص بالصفات المادیة و باقی ألفاظه واضحة لا یحتاج إلى الشرح بعد ما تقدم من الأصول المذکورة
شاهرودی مباحث مربوط به تدریس اینجانب مانند سرفصل ها، عناوین پژوهشهای مربوط به درس، پژوهشهای دانشجویان در زمینه های فلسفه و عرفان و سایر دروس رشته فلسفه و حکمت اسلامی به منظور استفاده دانشجویان علاقمند ارائه خواهد شد |